لا يخفى على أي متفاعل على شبكات التواصل الاجتماعي رواج المحتوى المتعلّق بالإنتاجية. فمن الطبيعي أن كلًا منا يريد معرفة ذلك السر الذي يستخدمه المنجز والناجح في مجاله للمداومة على العطاء والعمل. إلا أن بعض الدراسات المتعلقة بالإنجاز قد تعارض ما يروّج له وينشر عبر شبكة الويب، منها ما سأستعرضه في الفقرات القادمة.
يشير التعبير العربي "أن تحيط به علمًا" إلى معرفة الشيء من جميع جوانبه، أي أن تُلم به إلمامًا. والكناية المستخدمة في هذا التعبير تعكس تصورًا عن أن المعرفة لها جوانب متعددة، وليست ذات نظرة أحادية، حيث أنك بالحاجة إلى الدوران المجازي حولها، لترى ما هو مخفي بسبب قصور نظرتك. عندما يدرك من يحاول أن يتقن مهارة ما مقدار جهله، من المرجّح وجود احتمالين أمام المتعلّم؛ إما أن يحاول سدّ فراغ ذلك الجهل بتعلّم ما ينقصه من الأساسيات الكافية، والحدّ الأدنى من المطلوب، أو انطلاقه في سعيٍ مستمرٍ يحاول فيه إتقان المهارة ودراسة أي شيء له علاقة فيها.
ما بين هذين الموقفين فجوة فاصلة، لكي يستطيع المرء أن يسمي نفسه خبيرًا، لابد أن يصل لدرجة الاتقان في أدائه، مما يعني الكثير والكثير من التعلّم والدراسة. أما من يريد الحد الأدنى من الأداء أو كما يقال "يمشّي حاله"، فيمكنه بالطبع الذهاب لصلب الموضوع مباشرة والتطبيق السريع لما يرغب القيام به. ولكن الغريب في الدراسة التي أستعرضها في هذا العدد، أن موقفنا المعرفي تجاه التعلّم لا يقودنا دائما إلى ما نظنه الطريق الصحيح. يعرف العديد منا ذلك الشعور الغامر، الذي ينتاب من يقف أمام معرفة جديدة، أو حقل معرفي كبير لا يعرف من أي مسار يستطيع الدخول إليه والبدء بالتعلّم، مما ينتهي في كثير من الأحيان إلى التخلي عن المشروع بأكلمه بعد فترة وجيزة.
هل يجب عليّ أن أتعلّم كل ما هنالك قبل الشروع في العمل؟
نشرت «كيت بوروفسكي» ورقة بحثية بعنوان: «الفضول والدافع للتعلم.» بيّنت فيها العلاقة بين مستويات الفضول التي يمر بها من يتعرّض للمعرفة وموقفه الفضوليّ تجاه إكمال التعلّم، ثم وجود الحافز للبدء بالعمل بناءً على الكم المعرفي لديه. تبدو الفكرة سهلة مستساغة بأن تقول لأحدهم: "لا تتعلم كثيرًا، اعرف القليل ثم ابدأ"، إلا أن هذا لن يُكسب ثقة متلقي الخدمة وطالبها، فأنا أريد الخبير المحترف فيما يقدم، هل يمكنك أن تأكل وجبة أعدها طاهٍ يتعلّم على معدتك ويجرّب؟ حتمًا لن يقبل الأغلب. حينما قرأت ذلك الطرح، أول ما طرأ على ذهني هو مدى التعقيد الذي نضع بداخله الأمور. لا يتطلب العمل والإنجاز فهم علم الصواريخ، المهم أن تكون منفتحًا على سماع الغير وتصحيح طريقك أثناء المسير.
"مستوى التحفيز مهم: إن كان
التحفيز منخفضًا، لن يكون هناك أي دافع للاستكشاف؛ إذا كان التحفيز
مرتفعًا، سيؤدي إلى القلق. إذا كان الأمر معقولًا،
سيدفع إلى سلوك استكشافي متزن. ولقد وُصف هذا الاتزان، باسم "منطقة الفضول".
"ربعٍ تعاونوا ما ذلّوا"، أو ما أنجزوا؟
يحكي المثل السائر في منطقتنا "ربعٍ تعاونوا ما ذلّوا"، بمعنى أن المجموعة في وحدتها أقوى من أن تخاف في مواجهتها للصعوبات. إلا أن من المفاهيم الإدارية التي قد تجعلنا نعيد النظر في أمثالنا الشعبية في موضوع العمل والإطار المناسب لإنجازه، هو المفهوم الإداري الذي يتداوله القادة تحت اسم أثر رينجلمان (Ringlemann Effect)، حين تقاس الجهود المبذولة من قِبل الفِرق. بحث الخبير في الهندسة الزراعية «ماكس رينجلمان» ١٩١٣، عن كمية الجهد المعطى من قبل الفرد في مجموعة، مقابل جهوده المعطاة منفردًا. توصّل رينجلمان إلى أن الأفراد تميل في معظم الجماعات أن تصبح أقل إنتاجية كلما ازداد حجم تلك المجموعة. وأحد الأسباب التي يمكن أن تفسّر تلك النتيجة، هو الشعور الذي ينتاب المرء بظنه أن جهد أقرانه كافٍ لأداء المهمة. ولقد أكدّت أبحاث معاصرة مفهوم تأثير رينجلمان وأطلقت على تلك الظاهرة «التكاسل الجماعي».
قد يجد من يكره العمل الجماعي في هذا المفهوم مبررًا لانعزاله والعمل مفردًا، ولكن يجب ألا نغفل مهما كانت الدراسات، أن ما يمكنك فعله في أسبوع يمكن لفريق أن يفعله في يوم. إيجاد الإشكالات وفهمها لا يعني تصديق مفاهيم مثل أثر رينجلمان، بل أن نتجنّب المساوئ ونتفاداها، بالاطلاع على ما ورد في تلك الأبحاث.
في النهاية، يحاول المرء كل ما في وسعه ليجد ما يطلق إمكاناته في العمل، وأن يكون فعّالًا تجاه السعي نحو أهدافه، تتعدد الطرق والوسائل ويختار كلٌّ منا ما هو مناسب له. إلا أننا يجب أن نتذكر بأن المرونة هي عنصر أساسي في تقدّم الرحلة، فإذا كنت لم تتقدّم عن مكانك، من الأجدر أن تراجع ما يمكن أن يكون السبب الخفي في ثباتك.
كل الود،
محمد.
إذا أعجبك هذا العدد اقرأ على مدونتي مقالات عديدة أخرى قد تعجبك.
حقوق الصورة البارزة: Thomas Franke on Unsplash