سياسات المكتب: أن تحفر حفرة لأخيك وتدفعه فيها
البنية الاجتماعية المعقدة لبيئة العمل وطرق التعامل معها
المراوغة على رأس العمل
عملت منذ عدّة سنوات تحت إمرة رئيس لم أصادف مثله قط. كان كل يوم عمل تحت إدارته أشبه بقصة ساخرة يحزن فيها موظف ويخطط فيها آخر للانتقام، وتشتد فيها الصدامات تقريبًا كل يوم. تبدأ الحكاية اليومية من أول دقائق الصباح الباكر، حيث يراقب الفريق بعضه بأعين مرتابة وكأن لسان حالهم يقول: «من سيسقط اليوم ومن سيرفع راية الانتصار»، قبل أن تبدأ المناورات في الأفعال وإسناد المهام غير المنطقي والقرارات المفاجئة. يصعب عليّ وصف ما أريد الإشارة إليه في شخصية ذلك المدير بالتحديد، قد يسميها البعض حِنكة، ويقول البعض أنها دهاء، وكثير يؤكدون على أن ذلك خبث لا مجال للشك فيه، إلا أنني أرجّح القول أنها مساحة في وسط هذا المثلث.
عرفَ المدير أن الارتياب الحاصل بالعمل يزيد من مخاوف الفريق كاملًا وتربكهم احتمالاته، فيزيد بالضغط على ذلك العَصب الحساس بالتحديد ليقود الموظفين نحو رغباته المحددة، حتى وإن لم يصبّ ذلك في مصلحة سير العمل بشكل عام. من أمثلة ذلك أن يعقد اجتماعات منفردة مع أعضاء الفريق كل على حدة، ليؤكد على مخاوف هذا ويَعد ذاك بشيء يرغبه بشدّة، مغادرًا مكتبه نهاية اليوم وهو متأكد بأن ما قيل خلف باب مكتبه المغلق أثناء الاجتماع الفردي، سيتناقله الموظفون جميعًا لإيصال ما يريد قوله دون مواجهة صريحة ومباشرة ودون تجاوز قوانين العلاقات بداخل المنظمة.
ماهي سياسات المكتب؟
يمكن تعريف سياسة المكتب بأنها البنية الاجتماعية المعقدة لبيئة العمل. تتضمن استخدام الموظفين للسلطة والنفوذ، وتفويض الأفراد لمسؤوليات ومواضع في مهام العمل لصالح المكانة الشخصية. من المستبعد وجود أي منظمة بأي قطاع من القطاعات لا تُمارس فيها سياسات المكتب. وكأنها نتيجة حتمية لاجتماع أفراد للعمل تحت مظلّة مؤسسية مشتركة، تبدأ من حرص الفرد المشروع والمتفهم على مصلحته، لتنتهي بالتآمر والتعاون على زملاء آخرين.
كتبت بروفيسور الإدارة ليندا هيل من كلية هارفرد للأعمال بالمشاركة مع الكاتب كينت لاينباك، كتابهما المشترك: «أن تكون رئيسًا: الضرورات الثلاثة لتصبح قائدًا عظيمًا.» يتناول الكتاب ثلاثة أنواع من شبكات العلاقات التي تحتاجها لتنجح. ينصحانك ليندا هيل وكينت لاينباك في مقال على هارفرد بزنس ريفيو، بأن تتوقف عن تجنب سياسات المكتب، وأن تشارك فيها بإيجابية للوصول لنتيجة جيدة.
في مقابلة لهما عن الكتاب، ناقش الكاتبان ما اعتبراه أفضل طريقة لِلَعب سياسات المكتب. طرحا إدارة علاقاتك، والانخراط في السياسات الداخلية داخل المنظمات. يقول لاينباك بأن واحدة من أخطائه على مدار عمله كتنفيذيّ طوال ٢٥ سنة كان عدم الدخول في السياسة المكتبية، فإن كثيرًا من المنظمات تمارس السياسة بالمعنى المهني، في مساحات عملها.
كيف نفهم سياسات المكتب وماهي أسبابها؟
سيقول شخص يعلي من الأخلاق في تعاملاته الشخصية والمهنية بأن هؤلاء المتلاعبين وكل من يميل للتصرّف بهذه الطريقة هم مرضى، وقد يصدق في نعته بأنه مرض. يمكن تعريف «السوسيوباثية» أو اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع -الذي يسمى أحيانًا الاعتلال الاجتماعي- بأنه حالة من حالات الصحة العقلية لا يكترث فيها الشخص بالصواب والخطأ، متجاهلًا حقوق الآخرين وما يشعرون به. يميل المصابون باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع إلى تعمد إثارة غضب الآخرين أو استيائهم، والتلاعب بالآخرين أو معاملتهم بقسوة أو بلا مبالاة، دون شعور بتأنيب الضمير أو ندم على سلوكهم.
بقراءة هذا التعريف يمكن إسقاط هذه السمات الشخصية على صعبي المراس في مكاتب عملنا، فهذا الوصف قد يطابق الحالة التي عرفها أغلب من مر بظروف العمل الصعبة. قد تصدمك إحصائية تقول بأن من ١٪ إلى ٤٪ بالمجتمع مصابون باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع «سوسيوباثي». وبالرغم من هذا الرقم الصادم الذي يجعلك فطنًا لسلوكيات من حولك، قد لا يعذرني القارئ إذا ما قلت بأن التلاعب النابع من شخص مضطرب أو حتى سويٍ في نفسيته، متفهم بالنسبة لي، مع رفضي التام لهذا السلوك وجميع مسوغاته.
فعلى غرار وجهة النظر القائلة بأن حتى المجرم يرتكب فعله الفظيع لنيّة إيجابية لنفسه على الأقل، مثل أن السارق لا يجرؤ على التعدي على ممتلكات الغير إلا لتوفير الرفاهية لذاته، وذلك مسعى جميعنا نسلكه. كذلك التلاعب ينشأ من أسباب أنانية وشخصية تبدو مبرّرة لو سمعت مُتلاعبًا يشرحها لك. فالكل لديه أسبابه وإن خالف منظومة الأخلاق المجتمعية. نضع جميعنا مهمة كسب الرزق محورًا مصيريًا فيما نفعل، لهذا تخلو بيئة العمل من أي مجاملات أو تغاضٍ عن الأخطاء الصغيرة، فالتقدّم وتحقيق النمو أمر لا تهاون فيه. اِمزج تلك العلاقات مع رغبة عارمة في تأمين المستقبل وزيادة الدخل، تنتج لك هذه الظروف طبيعة تعاملات بعيدة عن أي إيثار وتقديم الآخرين على النفس.
يمكن إيعاز سبب النزاعات في بيئة العمل لسبب واضح، وهو أن السعي للتفوق قد يخلق جوًا من المنافسة التي تنفع شخصًا وتضرُ آخر، واحتمالية الضرر والنفع ممكنة على أي فرد في المنظمة من كبيرها لصغيرها. يصعب تغيير الطباع في الآخرين، خصوصًا تلك الحساسة التي لا تقبل النقاش والعرض. برأيي أن أفضل وسيلة للاندماج في المجتمع بكل تعدديته العريضة هو أن نعرف حقيقة الأشياء وكيف نتعامل معها، بتجنب الجهد الضائع في الدعوة لتغيير طبيعة الإنسان المغرقة في التعقيد والأنا.
محمد.
إذا أعجبك هذا العدد اقرأ على مدونتي مقال: من هو أول مدوّن على الإنترنت وأين هو رابط التدوينة الأولى؟ والذي تناول تاريخًا موجزًا عن التدوين.
حقوق الصورة البارزة: Cyrus Chong on Unsplash