وانتهت سنة ٢٠٢٤. كيف مرّت عليك هذه الشهور عزيزي القارئ؟ يراودني حدس غريب بأن أغلب من أعرفهم تغيّروا جذريًا بعد الجائحة التي قلبت أحوالنا قبل أربع سنوات، مثلما حدث معي، رغم أن التغيير في الخيارات الشخصية لا يمتّ بصلة للظرف الصحي والعدوى التي مررنا بها. أو هل تظن بأنهما مرتبطان؟
كانت هذه السنة الأخيرة بالغة التأثير عليّ، فمن ضمن العديد من المغامرات، مرّت السنة الرابعة من تغييري لمساري المهني الممتد لأكثر من عقد من الزمن إلى تأسيس وكالة محاك للتسويق.
قرأت مرة أن الفترة الزمنية التي يحتاجها النشاط التجاري لينجو من احتمالية فشله هي سنتان، إذا استطعت إبقاء الأمور تحت السيطرة على مدى ٢٤ شهرًا، فهذا مؤشر أنك تقف على أساس جيّد. مع أن تجربة تأسيس الوكالة بالنسبة لي تجاوزت اختبار الفترة الافتراضية بسلام، لكنها لم تكن التجربة الأولى؛ فلقد حاولت في الماضي تأسيس العديد من المشاريع التجارية وفشلت قبل مرور السنة الأولى.
ولأن نهاية العام هي وقت للمراجعة والنظر للوراء، أرغب بمشاركة تجربة سابقة في التجارة انتهت قبل أن تبدأ، ولكنها قادتني لشيءٍ أفضل، لأؤكد على فرضية أريد إقناعك بها؛ بأن بعض النهايات المؤسفة قد تحمل بداخلها بدايات أكثر إشراقًا.
امتلكت عائلتي قبل ٢٥ سنة مصنعًا صغيرًا للجلود في محافظة الأحساء، واشتهر ذلك المصنع بمنتجات جلدية كانت ناجحة نوعًا ما. ما زلت أتذكر مرافقة والدي رحمه الله للمصنع، وقضاء اليوم بأكمله في ذلك المكان. كان موقع المصنع في شارع تجاري رئيسي. وأبرز ما أتذكره في مدخل الاستقبال، هو شيء تثبت على الجدار بالأعلى، حذاءٌ جلدي عملاق أقدّر طوله بمتر ونصف، صنعه مشغّلو الآلات وعلّقوه في أعلى الجدار. أظن أنني أحببت الذهاب للمصنع لرؤية ذلك الحذاء وليس لسبب آخر. فلم أهتم بتجاوز الاستقبال إلى الباب الخلفي، حيث عملت المكائن المستوردة من الهند في خط الإنتاج.
كان المصنع الرئيسي في مدينة الهفوف نقطة التوزيع المركزية لصناعة عدة منتجات، أشهرها كان نوعية خاصة من الأحذية الجلدية اشتهر بها المصنع. تميّزت تلك الأحذية في تصميمها وجودتها، فلم يوجد أي منتج مشابه لها في السوق. وبدا أن السوق المحلي الصغير في المنطقة أحب المنتج وقدّره، إلى حد أنك إن زرت أي مسجد في أغلب أحياء المحافظة، فإنك تلحظ أن مكان أحذية المصلين يعجّ بنعال «تيربو»، الاسم اللطيف الذي أطلقه المستهلكون على المنتج. انتشار وشهرة قوية قبل زمن الإنترنت وحملات التيك توك.
وزّع المصنع بضاعته على قرابة ٢٠ فرع صغير انتشر في محافظة الأحساء وقراها، لتبيع المنتج وتقدّم خدمات صيانة للمنتجات الجلدية. مع أن المصنع حقق تميّزًا بصفته علامة تجارية محلية، لكنه لم يستمر بسبب تغيير كامل في توجّه الأعمال في العائلة. فتلك الحقبة شهدت بداية الإنترنت ودخول المقاهي في المحافظات الصغيرة التي لم تعرف أي شيء عن الإنترنت، فزاد التركيز التجاري على ذلك الجانب وانتهى المصنع تدريجيًا إلى أن أقفل آخر فرع.
ما علاقة المصنع بتجربتي؟
شاهدت في ٢٠١٩ إعلانًا لعلامة تجارية إماراتية اسمها «تماشي»، متخصّصة في إنتاج الأحذية الجلدية. أعجبني منتجهم المتقن وجودته الفاخرة، وأعجبني طابع البراند المبتكر والمجهود الذي بذله ملاّكه. تذكرت بحنين أيام المصنع وقلت لنفسي أنه من المؤسف حقًا أن «تيربو» لم يستمر، لو قدّر له أن يعيش ليومنا هذا مع تطوّر عصري ومواكبة لذوق المستهلك لكان تصديره إلى العالم العربي كله ممكنًا. ثم جاءت تلك النوستالجيا على هيئة فكرة، لمَ لا أحاول أن أصنع شيئًا مشابهًا يعيد أمجاد الـ«تيربو»؟ فأعيد تصنيع المنتج ذاته تحت علامة تجارية جديدة. تحمّست للفكرة وحاولت أن أبحث عن أي ذكرى للمنتج في ألبومات صور العائلة أو حتى تدوينات قديمة على الإنترنت ربما تحدثت عن المنتج، ظننت أن شهرته قد تجعل بعض المهتمين بالتراث والذكريات يكتبون عنه، ولكنني لم أجد أي أثر للأسف.
تشجعت للبحث في الفكرة ودراسة إمكانية تنفيذها على الأقل. بحثت عن جهة يمكنها أن تساعدني في إخراج نموذج أولي لفكرة المنتج. اجتمعت مع جهتين؛ مصمّمة مستقلة بارعة تعاملت معها مسبقًا، ووكالة مختصّة في تصميم المنتجات (Product Design Agency) في الرياض. اجتمعت مع الوكالة عدة مرات، وكان ذلك أول اجتماع أشارك فيه عن بعد. شاركتهم الدافع الذي شجّعني لدراسة الفكرة، وأُعجب الفريق بقصة المشروع وارتباطها الشخصي بي، فدائمًا ما تجد الشركات العائلية اعتزازًا بتلك الصورة الرومانسية في أن المشروع الناجح هو نتاج جهود قديمة أسسها جيل سابق قبل عشرات السنين. بالإضافة إلى أنني نفسي أعجبني أن أنظر للمشروع من هذه الزاوية.
بعد اجتماعات متكررة مع الفنانين ناقشنا فيها طبيعة المنتج السابق والرؤية الضبابية المستقبلية، بدأت بعض التصاميم المبدئية بالظهور، وتبيّنت معالم العلامة التجارية الجديدة التي اخترت لها اسمًا أوليًا: «شَسْع».
لم آخذ المشروع بجدية حتى تلك اللحظة، مع أنني كنت أعمل عليه بخطوات صغيرة. بحثت عن إمكانية التصنيع المحلي -وذلك بنظري الآن أحد الأخطاء الكارثية-، فتواصلت مع عدة مصانع جلود كبيرة في المنطقة الشرقية. كنت أحاول فهم طريقة التعاون مع المصانع بشكل عام. وكلما شرحت لمسؤول المبيعات طلبي استغرب منّي وحولني لأقسام داخلية أخرى (تصريف سريع). كرّرت نفس القصة الطويلة على مسامع مدير خدمة العملاء، الذي حولني إلى مدير التسويق، الذي بدوره حولني إلى مدير الإنتاج، ثم قال لي بأنهم منشأة صناعية أكبر لا تخدم احتياجي، وأن هنالك مصنع صغير في محافظة الأحساء يعتقد أنه مناسب للطلبات الصغيرة، إذ يدير المصنع رجل من أهل المنطقة عمل في هذه الصنعة لأكثر من ثلاثة عقود. اتصلت على الرجل وسلمت عليه قبل أن أشرح له احتياجي: "أريد صناعة كميات قليلة من منتج قديم يدعى «تيربو»، كانت أسرتي تدير مصنعًا له قبل سنوات طويلة." وفاجأني الرجل، أنه يعرف المصنع ويعرف المنتج.
لم يتسنَ للفكرة أن تذهب أبعد من ذلك، انتهى مشروع «شَسْع» قبل أن يبدأ. فكانت بعض أسباب فشله مبرّرة وبعضها ساذجة. ولكن القصة هنا ليست عن المشروع، بل عن وكالة تصميم المنتجات التي تعاملت معها.
كيف قادني مشروع «شَسْع» إلى تأسيس وكالة مُحَاك؟
كان التعامل مع وكالة تصميم المنتج (Product Design Agency) هو أول تعرّفي على نموذج عمل الوكالات. وهو ما شجّعني بعد سنوات أن أضع باعتباري تأسيس وكالة بنفسي. مع أن تخصّص وكالة تصميم المنتجات كان مختلفًا عمّا أردت فعله، إلا أنني أُعجبت بطريقة عملهم، وأعجبتني المساحة الإبداعية المتاحة لهم في أن يخدموا عميلًا بتطوير مشروعه. وانشغالهم بالجانب الإبداعي بالتحديد هو ما أثار فضولي، فبصفتي موظفًا لم أكن أعتقد أن هذا خيارٌ من الأساس، هل يمكن للشخص أن يبيع إبداعه؟
ساعدتني الاجتماعات المتكررة مع فريقهم في التعرّف على سوق الوكالات كقطاع ناشئ في السعودية. وأنا ممتن لتلك التجربة التي قادتني لرحلة طويلة انتهت بتأسيس وكالة مُحَاك، فهذا المشروع هو ما أراهن عليه بأن يضيف قيمة حقيقية، وهو ما سأجتهد فيه بالسنوات المقبلة.
هذا ما أردت قوله في هذا العدد الذي أرسله في آخر ساعات سنة ٢٠٢٤: استخلص من تجاربك دروسًا للمضيّ قدمًا، فالرحلة معطاءة وسخية إن أصغيت لها.
كل عام وأنتم تعيشون أفضل نسخة من ذواتكم
كل الود،
محمد.
إذا أعجبك هذا العدد اقرأ على مدونتي كيف تبني فقرات مقالك؟ [طريقة CEW]
البب