في ظلمة مقصورة الطائرة، أطفأ طاقم الرحلة الإضاءة لينام المسافرون. بقيتُ مستيقظًا على الكرسي، أبحث عمّا أفعله في رحلة امتدت إلى ستة عشر ساعة. كنت قد جلبت معي كتابًا وقرأت جزءًا منه في بداية الرحلة، لكنني شعرت بالملل ووضعته جانبًا. أمسكت بجهاز التحكم المثبّت في المقعد، وبدأت بتصفح المواد الترفيهية على الشاشة الصغيرة أمامي. مررت على معلومات الرحلة، وخارطة تعبر فيها الطائرة فوق المحيطات الواسعة. ثم انتقلت لألعاب مخصّصة للأطفال، قبل أن أقرر تفقّد قسم الأفلام.
تقدّم الخطوط السعودية نموذجًا رائعًا في تشجيع الإنتاج المحلي، يتمثل ذلك بعرض الإنتاج السعودي على متن رحلاتها، مما يعرض تلك الأعمال على شريحة أوسع من مختلف البلدان والجنسيات. بعد الاطلاع على عدة خيارات سينمائية بالشاشة، قرّرت مشاهدة الفيلم السعودي «مندوب الليل» من إخراج علي الكلثمي وبطولة محمد الدوخي، فلطالما تابعت هذين الشخصين واستمتعت بإنتاجهما منذ بدء ظهور الإنتاج السعودي الشبابي على YouTube.
يحكي الفيلم عن شخصية «فهد القضعاني»، وهو ثلاثيني أعزب ومضطرب، يفتقد العاطفة والوظيفة فيتجه لعالم لا يفقه فيه شيئًا، متخليًا عن مبادئه، على حد تعبير حاتم سعيد. تبدأ الشخصية المحورية بتوصيل طلبات المطاعم لتجد نفسها تختلط بطبقات اجتماعية لم تكن لتتعرف عليها في يوم من الأيام لولا هذه التجربة. أعجبني الفيلم للغاية، فالمواهب السعودية الفنية والروائية في تصاعد ملحوظ، وتنافس في المحافل السينمائية العالمية بكل فخر.
بعض المصادفات لا تحدث حتى وإن خططت لها. فبعد مشاهدتي لفلم «مندوب الليل» بأسبوعين فحسب، استحضرت قائمة أحفظ فيها مئات الأعمال السينمائية الكلاسيكية التي أود مشاهدتها وإن مرّت السنين وتقادمت. وكان من ضمنها أعمال المخرج الإيراني الكبير عباس كيروستامي. تصفحت قائمة مكونة من جميع أعماله، وقررت مشاهدة فيلم «ذهب قرمزي» (Crimson Gold)، الذي شارك كيروستامي في كتابته في عام ٢٠٠٣.
بدأت بمشاهدة الفيلم، وكان استغرابي يزداد كلما تقدمت القصة، مع شعور متزايد بأن أحداث هذا الفيلم مألوفة لدي. تحكي القصة عن «حسين»، عامل توصيل الطلبات في مطعم بيتزا، يأخذه عمله إلى أحياء تضمّ طبقة اجتماعية مختلفة، فيجد عامل التوصيل مدخلًا إلى تلك الطبقة الاجتماعية الأعلى منه. كلا الفلمين، «مندوب الليل» ٢٠٢٣ و«ذهب قرمزي» ٢٠٠٣، متشابهين في الأحداث، على نحو مفاجئ.
كيف نقرأ تشابه الأفكار بين الأعمال؟ 🎬
قد تتشابه الأفكار في حقل الأعمال الإبداعية بقصد أو بغير قصد. هنالك رأيان في قضية أصالة الأفكار؛ يقول الأول بعدم وجود أي فكرة مبتكرة من الأساس، فكل ما يصنعه الإنسان هو إعادة صياغة فحسب لمئات بل أُلوف الأفكار التي تمر علينا. ولا يحق لنا أن نزعم بالقول بالأصالة التامة لما ننتج، فكل إنتاج هو إعادة صياغة.
أما الرأي الثاني فيقول بفرادة الأفكار وإن كانت مطروحة بصياغة معادة. وهذا هو المذهب العام والإطار القانوني الذي يحمي الأعمال المعاصرة بقوانين الملكية الفكرية وحقوق النشر (Copyrights). يمكنك التمسّك بحق أفكارك وحمايتها لعدّة تبريرات، نستعير منها منطقًا لنعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، في رأيه القائل بأن التلفظ بمجموعة من المفردات المجتمعة معًا هو تشكّل جديد في تاريخ الكون (هل تبدو مبالغة؟). مع أن المفردات اللغوية معروفة ونستخدمها في تركيب مختلف كل مرة، إلا أن في استخدامك لمجموعة جديدة كل مرة، فإنك ترّكب معانٍ لم يسبق وجودها بهذه الصياغة من قبل. ينطبق ذلك على اللغة والأفكار، وحتى الصناعة السينمائية في موضوعنا.
مندوب الليل فيلم رائع، وبظني أنه أحد أجمل الأفلام السعودية التي شاهدتها حتى الآن. سألت المخرج مباشرة ما إن كان قد استلهم كتابة النص من العمل المذكور، ولم يرد علي. لكنني استمتعت كثيرًا بالقصة وحبكتها التي تشدّ المتلقي، وأتمنى لمستقبل السينما السعودية المزيد من الإبداع في كتابة النصوص الفنية.
حقوق الصورة البارزة: IMDB - Night Courier (2023)
إذا أعجبك هذا العدد اقرأ على مدونتي ما هو الأدب الإبداعي غير الخيالي؟ [Creative Nonfiction]